ملحوظة : فهذا تلخيص لكتاب مناهج البحث العلمي للدكتور عبد الرحمن بدوي، كان عملي فيه هو تلخيص مضمون الكتاب دون أن أتصرف في كلامه إلا قليلا"
يتكون التاريخ من وقائع حدثت مرة واحدة
وإلى الأبد، بينما يتكون العلم من حقائق قابلة دائما ﻷن تعود، وما ذلك إلا ﻷن
التاريخ يقوم على الزمان وأول
خاصية من خصائص الزمان عدم قابلية الإعادة .
ومهمة علم التاريخ أو التأريخ أن يقوم
بعملية مضادة لفعل التاريخ ألا وهي أن يحاول أن يسترد ما كان في الزمان …- أي – أن
يستعيد في الدهن وبطريقة عقلية صرفة ما جرت عليه أحداث التاريخ في مجرى الزمان (ص183)، … فالتاريخ الحق هو ذلك الذي يستطيع
أن يحيا تجارب الماضي كما حدثت في نوع من التخيل، ولكن هذا التخيل ليس تخيلا
مبتدعا إنما يجب أن يقوم على
أساس ما خلفته الأحداث
الماضية من آثار(ص
183).
فالتاريخ لا يمكن أن يقوم إلا من أساس
الوثائق، وهذه الوثائق تنقسم إلى
آثار أو مخلفات خطية او روايات أو
نقوش …
خطوات المنهج التاريخي.
الخطوة الأولى: جمع الوثائق.
الخطوة الأولى في المنهج التاريخي هي خطوة البحث
عن الوثائق … فعلينا اولا أن نجمع كل ما يمكن جمعه من الوثائق المتعلقة بعصر من
العصور أيا مان نوع هذه الوثائق وأن نضمها جميعا في مكان واحد (ص
184-185)، ولا ضير على الإنسان أن يبدأ أولا بجمع الوثائق من
أي مصدر كان وأن يضم بعضها إلى بعض دون ترتيب أو تمييز أو تصنيف، ﻷن المهمة الأولى هي
جمع الوثائق من مظانها في كل مكان … مضيفين إليها إن أمكن كل المصادر غير المباشرة التي
تعيننا على تحقيق صحة الوثيقة المدروسة (ص
185) .
وإذا تمت هذه الخطوة الأولية بدأت الخطوات الحقيقية
في المنهج التاريخي وهي خطوة النقد .
الخطوة الثانية : النقد – نقد الوثائق التاريخية -
هذه الوثائق التي يعتمد عليها المؤرخ
يجب أن تكون نقطة البدء
لكي يصل إلى الواقعة التاريخية التي تعد الغاية الأخيرة، ولكن بين الوثيقة وبين الواقعة
التاريخية طريقا شاقا طويلا يقوم كله على أساس أنواع من الاستدلال، وهذه الخطوات
المتوسطة بين نقطة البدء ونقطة الإنتهاء هي الوصف الحقيقي للمنهج التاريخي (ص
186).
ولو نظرنا في الوثائق
لوجناها على نوعين :
·
النوع الاول:
هو الآثار أو الاشياء المصنوعة .
·
النوع الثاني:
هو الآثار الكتابية التي قد
تكون مجرد جمع روايات عيانية أو غير عيانية لهذا الحادث التاريخي.
أما
النوع الاول
فيسير لا يؤدي كثيرا إلى الاخطاء اللهم إلا من حيث صحة نسبته التاريخية ، وذلك ﻷنه
أثر مادي .
أما
حالة النوع الثاني من الوثائق فالأمر عسير … ﻷنه عبارة عن الآثار التاريخية
المتخلفة في نفسية إنسان عن حادث، والإنسان
بطبعه حر متغير كثير التأثر يخضع لعوامل عدة … فضلا عن أن لديه دواعي عدة للتحريف أو التزييف
أو الوقوع في الخطأ أو مجرد الوهم. ويزاد الأمرعسرا فيما يتصل بالآثار القديمة،
أولا ﻷن عوامل التغير
من أيد كثيرة مرت بها هذه
الأشياء، أو من مجرد فعل الزمن الذي يعفي على الآثار ، فضلا عن عدم دقة المؤرخين
الأقدمين نظرا إلى روحهم التوكيدية القاطعة أو إيمانهم الساذج ببعض الأحداث دون
نقد او تمييز.
(ص187).
لهذه الأسباب كلها يتعين القيام بمعلية
امتحان قاس لكل هذه الوثائق … فلا بد من إخضاعها لنوعين من النقد يقتضيهما المنهج
التاريخي وهما :
· اولا
:النقد الخارجي : Critique Externe.
· ثانيا
: النقد الباطن – الداخلي – Critique Interne.
1-النقد الخارجي للوثيقة التاريخية .
يجب أن نلاحظ أن مهمة المؤرخ كأشق ما
تكون المهمة … ﻷنه ما كان قد كان، ولا سبيل إلى إعادته ولهذا كانت مهمة المؤرخ
محفوفة بالمصاعب .
اما النقد الخارجي فينقسم إلى قسمين:
·
أولا : نقد الاستعادة
او نقد التصحيح .
·
ثانيا : نقد المصدر.
أ- نقد الاستعادة :
يقوم هذا النقد على أساس التحقق من صحة
الوثائق التي لدينا عن الحادث فعلينا أن نعرف هل الوثيقة صحيحة ؟ أي أنها هي
الوثيقة الحقيقية التي كتبها صاحبها ( ص 188)
.
لدينا فيما يتعلق بالوثائق أحوال ثلاثة
رئيسية :
الأولى : أن تكون لدينا نسخة
بخط المؤلف من الوثيقة موضوع البحث، وحينئذ يكون الامر يسيرا، وما علينا في هذه
الحالة إلا أن ننسخ الوثيقة كما هي في اﻷصل تماما … حتى ولو كانت مليئة بالأخطاء …
ﻷن المطلوب هو تقديم وثيقة المؤلف الأصلية كما كتبها بالضبط .
الحالة الثانية
: … وهي ألا تكون الوثيقة مخطوطة بخط المؤلف بل نسخة وحيدة، وهذه النسخة الوحيدة
قد تكون أحيانا كثيرة مليئة باﻷخطاء وهذه اﻷخطاء إما أن تكون أخطاء في الحكم أو
أخطاء عرضية (ص189).
اما الاخطاء في الحكم فتتعلق إما
بالجهل من جانب الناسخ او محاولة إصلاح النص حسب فهمه الضيق فيسيء إلى النص من حيث
أراد ان يصلحه – ومثل هذا كثير في المخطوطات العربية .
أما الأخطاء العرضية فتنشأ من
الناسخ إما بنسيان بعض اﻷلفاظ أو اخطائه الإملائية .
وهذه اﻷخطاء المتعلقة بالتحريف في النص
يمكن إصلاحها بوجه عام عن طريق استقصاء اﻷخطاء التي يقع فيها المرء عادة أثناء
النسخ …
(ص 189) . ولكي يصلح النص إصلاحا حقيقيا يجب
على من يتصدى لهذا العمل :
أولا : ان يكون محيطا
باللغة التي كتبت بها النصوص التي يشتغل فيها وبكل الخطوط التي مرت بها بلغة من
اللغات إذا كان يتناول عصورا متطاولة .
ثانيا : أن يكون على علم بالاخطاء الشائعة، الخاصة بكتابة
لغة من اللغات مما يرد عادة لدى النساخ … وينبغي من أجل ذلك وضع معجم أبجدي منهجي
للأخطاء الشائعة الخاصة بكتابة لغة من اللغات . فهذه عملية من أهم العمليات التي
تساعد الناشرين على تحقيق النصوص وإصلاحها (ص 190).
الحالة الثالثة
: إذا كان لدينا أكثر من مخطوطة فإن عملنا سيكون من ناحية ميسرا ومن ناحية أخرى
أطول. وفي هذه الحالة نلجأ إلى القواعد التي نستعملها عادة في تحقيق المخطوطات من
جمع وتصنيف حسب الاهمية وتحديد الاصول والفروع أي وضع شجرة النسب للمخطوطات المجموعة-
ومقارنة النسخ أثناء القرءة حتى يتم الكشف عن الاخطاء المحتملة وتصحح
الوثيقة لتصبح في وضع اقرب إلى الصورة التي وضعها عليها المؤلف.
وخلاصة الامر أن نقد الاستعادة لا يؤدي
إذن إلا إلى استخراج النص كما هو في أصله دون أن يضيف شيئا، مزيلا كل القراءات
الفاسدة وكل التصحيفات التي مر بها النص، وكل القراءات التي يمكن أن تكون دخيلة أو
معدلة فهو إذن لا يضيف جديدا مطلقا إلى
النص.
ب- نقد المصدر.
لا يكفي أن تكون لدينا الوثائق صحيحة
وكما كتبها واضعها، إنما يجب أن يضاف إلى هذا أن نعرف أولا: ما مصدر الوثيقة
؟ ثانيا: من مؤلفها؟ ثالثا : ما تاريخها؟
، ذلك أن الوثائق تختلف في قيمتها اختلافا شاسعا من حيث صحة نسبتها إلى واضعها أو
إلى من ذكر اسمه كواضع لها (ص 194)
. لذا يجب ألا نثق مطلقا في أي نسبة ﻷي وثيقة إلى شخص معين فكثير من الوثائق قد
زيف لدواع عدة …
وتمييز المنتحل من الصحيح من المؤلفات
عسير كل العسر بالنسبة إلى الأقدمين خاصة أنهم لم يعتادوا على كتابة أسمائهم أوتعلقات تدل عليهم أو ﻷن مواضعها من الوثيقة
قد درست ، والقواعد التي تيسر على الباحث هذا الأمر تسير على النحو التالي :
اولا : النظر في الخطوط
التي كتبت بها الوثيقة، فالخطوط تختلف بين العصور...
ثانيا: يجب النظر في اللغة
التي كتبت بها الوثيقة … فبعض الخصائص اللغوية تميز عصرا من عصر ، وبالتالي نستطيع
بواسطتها أن نحدد عصر الوثيقة التي كتبت بهذه اللغة …
ثالثا: يجب النظر في
الوقائع الواردة في الوثيقة من حيث إمكان حدوثها في الزمان المنسوبة إليه ، او في
المكان الذي تزعم الوثيقة انها جرت فيه، وأن ننظر فيما عسى أن يكون إشارات إلى هذه
الوقائع في كتب المعاصرين فعن طريق معرفة هذه الإشارات نستطيع أن نتبين إلى حد ما
العصر الذي تنتسب إليه الوثيقة (ص 197).
كما يمكن أن نؤكد النتائج التي نصل
غليها بواسطة ما عسى أن يوجد لدى المؤلفين الآخرين من اقتباسات من هذه الوثيقة
بشرط ان يكون هؤلاء المؤلفين معاصرين أو شبه معاصرين وان يذكر صراحة إسم صاحب
الوثيقة.
وعلينا بعد ذلك أن نعرف المصادر التي
صدرت عنها الوثائق أو التي استلهمها أو استعان بها مؤلفوا الوثائق التي بين
أيدينا، فحينئذ نستطيع أن نحدد بالدقة الحادثة التاريخية من حيث مصدرها.
ومن هذا كله يتبين أن نقد المصدر خطوة
تمهيدية لا بد من القيام بها حتى نستطيع الوصول إلى النص الحقيقي أي ذلك الذي وضعه
المؤلف، ثانيا نصل إلى تحديد الوثيقة من حيث الصحة ومن حيث النسبة (ص
201) . وهذا في الواقع مجرد عملية تمهيدية هي
في ذاتها وسيلة لخطوة أعلى منها هي النقد الحقيقي أو النقد الباطن ، ولهذا يجب أن
نقوم بهاعلى هذا الاعتبار فتعد مجرد وسيلة فحسب ( ص 201).
2- النقد
الباطــن .
الخطوة الحقيقية في المنهج التاريخي هي
عملية النقد الباطن، ويقصد بهذه العملية بيان ما قصده صاحب الوثيقة من هذه الوثيقة
ثم معرفة صدقه في الرواية سواء أكان شاهد عيان أو كان ناقلا عن غيره (ص
205) .
فابتداء من المشاهدة مارين بالتسجيل حتى
نصل إلى الصيغة التي لدينا عن الوثيقة توجد سلسلة طويلة من العمليات قد يخطئ فيها
صاحبها، ومهمة النقد الباطن امتحان صحة كل هذه العمليات … ولكننا نستطيع أن نلخص
هذه العمليات في عمليتين كبيرتين هما :
·
عملية التحليل للنص
والنقد الإيجابي لمعناه – أي تفسيره - .
·
عملية النقد السلبي
للنص للنزاهة والدقة.
العملية الأولى : النقد الإيجابي للتفسير . Critique positive d interpretation.
هذه العملية يقصد منها إلى فهم مدلول
الوثيقة التي نعنى بدراستها، فعلينا أن نحدد بالدقة ماذا قصد صاحب الوثيقة منها،
أي أن العملية التي نقوم بها في الواقع هي عملية تفسير، وتقوم في البدء على عملية
فهم النص كما هو في لغته أي أنها في البدء عملية لغوية (ص 206).
وهذه العملية عسيرة كل العسر خصوصا إذا كانت
اللغة قديمة، وذلك أن اللغات كائنات حية ومعاني الالفاظ تتغير بتغير اﻷزمنة
واﻷمكنة – مثلا في اللغة العربية هناك الكثير من اﻷلفاظ التي تعددت معانيها
باختلاف العصور بحيث يخطئ المرء في استخدامها من ذلك مثلا أن يقال إن فلانا التجأ
إلى حائط فيفهم من الحائط معنى الجدار بينما المقصود هو البستان - ، فعلينا إذن :
-
أن نعرف بالدقة
المعاني التي كانت تستخدم فيها الألفاظ في العصر الذي كتبت فيه الوثيقة .
-
يجب معرفة الإستعمال
الخاص للمؤلف، فلكل من الشخصيات الخالقة في الناحية الفكرية معجمها الخاص الذي
يتميز عن المعجم العام لعامة الناس (ص 207).
-
فهم الكلمات وفقا
للسياق، وهذا ما يعرف باسم قاعدة السياق La regle de
contexte ومضمونها
أنه يجب ألا نفهم عبارة أو كلمة إلا وفقا للسياق الذي توجد فيه فكثيرا ما تختلف
معاني العبارات أو باﻷحرى معاني الكلمات وفقا ﻻختلاف الأماكن التي تستخدم فيها …
ومن الخطأ أن نقتبس نصا لمؤلف قديم ونولجه في نص حديث محاولين أن نفسر عبارة
المؤلف القديم على نحو يتفق وأقوالنا نحن، فإن في هذا تزييفا شنيعا لفكر المؤلف
فضلا عما يجر من مغالطات عديدة.
-
يجب ألا نفسر النص
إلا وفقا للموضع الذي وجد به، وألا نحاول أن نتقول عليه ما لا يمكن أن يكون قد فكر
صاحبه في القول به فضلا عن أن يكون قصد إليه.
بهذا نستطيع أن نحدد ما يسمى باسم "
المعنى الحرفي للنص" ، غير انه كثيرا ما يكون ظاهر النص غير معبر حقا
عما رمى إليه المؤلف بالفعل والدواعي إلى هذا عديدة … ( ص 208) ، لهذا لا يجب ان نأخذ النصوص بظاهرها
دائما، فإذا وجدنا النص غامضا أو يختلف مع ما نعرف من أقوال أخرى للمؤلف ...فإن
علينا أن نعتبر النص هنا يجب ألا يؤخذ بحروفه، بل علينا ان نفترض معنى خفيا قصد
إليه المؤلف واضطر إلى إخفائه ﻷسباب عدة . وفي هذا فائدة كبرى في استخراج كثير من
معاني الرموز وتفسير بعض الإشارات الغامضة( ص209).
وبتحديد المعنى الذي قصد إليه المؤلف
تمام أو على أتم وجه متيسر ينتهي هذا الدور من النقد الباطن، وبعده يأتي الدور
الثاني من ادورا النقد الباطن هو الدور السلبي للنزاهة والدقة.
العملية الثانية : النقد الباطن السلبي للنزاهة والدقة .
كل ما يقدمه لنا النقد الإيجابي
للتتفسير هو مقصد المؤلف فحسب … لذا لابد أن نقوم بعملية ثانية للنقد الباطن هي
عملية النقد الباطن للنزاهة والدقة ، فعلينا ان نبحث في صحة مشاهدة مؤلف الوثيقة
للحادث ، وهل أصاب في وصفه له؟ وهل أخطا في بعض الجزئيات ؟ وهل لم يكن مخدوعا في
بعض ما شاهده ؟ وهل لم تكن له دوافع أجنبية من شانها أن تشوه تصويره للحادث ؟ في
كلمة واحدة إلى أي حد نثق برواية صاحب الوثيقة؟ (ص210).
إن هذه المرحلة تسير على مبدأ "الشك
المنهجي" فنعتبر ابتداء أن كل الوثائق مزيفة، وعلى المؤرخ أن يبدأ بإثبات
صحتها (ص
211). وبهذا الشك الحاسم المتناول لكل شيء
نستطيع أن نقيم فعلا منهجا علميا لدراسة التاريخ، وهنا يجب أن نتبع قاعدتين:
أ-
القاعدة الأولى هي أنه يجب ألا نثق في رواية لمجرد أن صاحبها شاهد عيان،
فشهادة العيان ليست صحيحة دائما ﻷن صاحبها قد يخطئ.
ب – يجب ألا نأخذ الوثيقة ككل، بل علينا
أن نحللها إلى آخر ما تنحل إليه من أجزاء، وأن نبحث في قيمة كل جزء وصحة دلالته
على الوقائع الواردة بها .
والبحث بعد هذا يتشعب إلى شعبتين : أولا
: شعبة تتعلق باﻷخبار الآتية من شهادة العيان أو المشاهدة المباشرة، وثانيا : الاخبار
الواردة بطريق غير مباشر.
1- روايات شهادة العيان أو الروايات المباشرة .
قلنا إن الرويات المباشرة لا تدلنا حقا
من مجرد كونها مباشرة على صحة الوثيقة، بل علينا أن ننظر في الظروف والأحوال التي
وضعت فيها الوثيقة والظروف التي أحاطت بالمؤلف سواء كانت هذه الظروف والأحوال
خارجية أم كانت ظروفا شخصية متصلة بالمؤلف نفسه … فنبحث في الأحوال العامة للوثيقة
التي نحن بصدد دراستها فنجمع المعلومات عن المؤلف وعن أمانته وعن ثقة الناس به وعن
العصر الذي كتبت فيه وعن الوثائق المشابهة التي أوردت نفس الحادث (
ص 212) .
وفي البحث عن أمانة صاحب الوثيقة نضع
ﻷنفسنا طائفة من الأسئلة الموضوعة سابقا تقريبا … وهذه الأسئلة تدور حول بابين :
-
الباب الاول : هو باب
النزاهة .
-
الباب الثاني : هو
باب الدقة.
الباب الأول : النزاهة
.
فالنزاهة تتعلق بأمانة المؤلف في رواية
الحادث أو نقله … فقد تحصل أسباب تدعو إلى الكذب كأن يكون قصد التزييف أو كان
ملحقا بحاشية ملك أو أمير، أو أن يكون المؤلف مدفوعا بدوافع البغضاء والكراهية
لجماعة من الجماعات دينية أو وطنية … فيميل إلى تمجيد مبادئه هو أو مبادئ حزبه …
والحط من قيمة الخصوم وتزييف أقوالهم والتقول عليهم بأشياء لم يقولوها إطلاقا … (ص
212-213).
الباب الثاني : الدقـــــة .
أما الدقة فتتصل بالخداع أو الخطأ
ومعناه أن يكون صاحب الوثيقة فريسة لوهم من اﻷوهام فيظن أنه رأى الحادث على هذا
النحو … مع أن الحادث كان على نحو آخر، وذلك ﻷسباب أشهرها :
· أن
يكون الشخص في وضع يشاهد الحادث فعلا ويعاينه ويباشره، ون أن يكون تمة مانع قسري،
ولكنه لا يراه على حقيقته لوجود معان سابقة في دهنه – فقد يشاهد عشرون شخصا حادثا
من الأحداث لكن يروونه بطرق متعددة - .
· إن
يضطر الراوي إلى رواية الحادث على نحو لا يستطيع أن يرى الاشياء فيه إلا على هذا
النحو(ص213).
· أن
تكون الوقائع معقدة ومتشابكة أو موجودة في أماكن متعددة أو يحتاج الأمر إلى كثير
من المخبرين والأرصاد فتكون روايتهم في هذه الحالة مشوبة بالكثير من النقص، ﻷنه لم
يستطع أن يشاهد الحادث كله جملة … فيضطر في النهاية أن يورد الرواية على نحو غير
دقيق.
فالفارق بين النزاهة وبين الدقة إذن هو أنه في عدم النزاهة يفترض سوء النية
، وفي عدم الدقة يفترض حسن النية ويأتي الخطأ من وهم أو استحالة مادية .
2- الرواية غير المباشرة .
إذا لم يكن مؤلف الوثيقة قد عاين
الحوادث، بل كانت روايته عن آخر عاينه أو قد ضم اخبارا متفرقة عن مخبرين متنوعين
ضمها جميعا لتكوين أخبار عن حادث معين فإنه في هذا أيضا يكون قد قدم لنا جميعا
وثائق غير مباشرة وأكثر المؤرخين إنما
يسيرون على هذا النحو. وهنا يتعين علينا ان نلجأ إلى طريقة أخرى … وأهم ما في هذه
الطريقة أولا أن نحاول قدر المستطاع أن نتسلسل فيما بين الرواة حتى نصل إلى الراوي
الأصلي الذي يكون قد عاين الحادث … فننظر فيه من حيث أمانته ودقته كما فعلنا في
المرحلة السابقة.
لكن معرفة ذلك عسيرة كل العسر وتبلغ في
أكثر الاحيان درجة الاستحالة، ولا نكاد نجد لهذا شبيها إلا في حالة الاحاديث
النبوية، فهي وحدها تقريبا في كل الأخبار العالمية تلك التي وردت مقرونة برواتها
راو عن راو حتى نصل إلى الشاهد الحقيقي في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم (ص215).
3- استعادة الوقائع.
وبهذا تنتهي مهمة النقد … وكل ما تقدمه
لنا هو الوثائق مبينة صحتها ومعلمة كلها بعلامة تدل على درجة اليقين فيها .
أما التأريخ الحقيقي فيبدأ من هذه
الوثائق لكي يستعيد الوقائع كما حدثت في واقع التاريخ، وهنا يجب أن نلاحظ أن مهمة
المؤرخ في غاية الصعوبة ﻷن … الوقائع التاريخية تمتاز بعدة خواص:
· أولا
: أن الوثيقة التاريخية هي الشيء الوحيد الباقي من الواقعة التاريخية …
· ثانيا
: تمتاز الوثائق التاريخية بانها تأتي لنا على درجة غير متساوية من العموم .
· ثالثا
: الواقعة التاريخية محددة بزمان ومكان معينين وإلا لم تكن لها قيمة حقيقية… (ص218).
وقد رأينا ما هنالك من صعوبة هائلة في
تحديد تاريخ الوثائق ، لهذا كانت مهمة المؤرخ صعبة … خصوصا إذا لاحظنا أن التاريخ لا يخلف لنا نفسه، إنما يخلف
لنا تعبيرات أوصافا للاحوال التي جرت فيه، والاوصاف والإدراكات كلها تتوقف على
أمور نفسية أو ذاتية هي الأحوال الذاتية الخاصة بمؤلف الوثيقة إلا في احوال قليلة
هي أحوال الاشياء المادية الدالة على آثار … (ص 219)
.
ومن هنا كان التاريخ إلى حد كبير يقوم
على موهبة خاصة عند المؤرخ الذي بها يستطيع أن يحيا الماضي بكل ما كان عليه، وأن
يستعيد كل تجاربه في الماضي ابتداء من الوثائق (ص 219).
ولهذا سيضل البحث التاريخي بالضرورة
بحثا ذاتيا ولكن يمكن أن نحدد مهمة المؤرخ بعد هذا في الخطوات التالية :
- أولا:
على المؤرخ ان يستخرج من الوثائق كل المعلومات التي تعبر عنها ، سواء كانت هذه
المعلومات متعلقة بأفراد أو أشياء مادية أو كانت متعلقة بأعمال غنسانية ، او كانت
ثالثا متصلة بدوافع وبواعث على هذه الافعال.
- ثانيا:
أن يضم المعلومات التي قدمتها الوثائق الجزئية بعضها إلى بعض ، ويصنفها تبعا لمبدأ
تصنيف معين ، والصعوبة كل الصعوبة في إيجاد مبدأ التصنيف هذا .
ثالثا : أن يضمها جمعاء في إطار عام ، تدخل فيه كل الوقائع قدر
المستطاع حتى تتكون صورة واضحة للعصر التاريخي أو للتاريخ العام الذي يبحث فيه …
- رابعا
:
قد يجد المؤرخ نفسه هنا بإزاء كثير من الثغرات في داخل هذا الغطار ، وعليه حينئذ
أن يملأها ويملأ كل فراغ بين تسلسل سير الأحداث حتى يطرد سير التاريخ ويكون متصل
الأجزاء (ص 220) .
- خامسا:
عليه أن يقوم بوضع الصيغ العامة … التي يسجل فيها الحقائق التاريخية واحدة واحدة
مما يدخل في هذا الإطار العام حتى تصبح حقائق معقولة قابلة ﻷن تدون في صورة
تاريخية.
- سادسا
: واخيرا تأتي … خطوة العرض وهي خطوة عملية اكثر من أن تكون نظرية ومهمة المؤرخ أن
يعرض الاحداث وفقا للصيغ التي اختارها ، ويرتبها بحيث يمكن أن تنقل إلى الآخرين.
0 تعليقات