السلفية الجديدة في فكر علال الفاسي .


مفهوم السلفية عامة والسلفية الجديدة خاصة عند علال الفاسي .
  من المعلوم تاريخيا أن الدعوة الوهابية التي ظهرت في الحجاز كان لها صدى في المغرب ، فقد تبناها السلطان المولى سليمان، وعمل على نشر مبادئها ، ثم "كان للسلطان المولى عبد الحفيظ فضل كبير في إظهار مبادئها وتأييدها خصوصا بعد أن أخذ بعض أدعياء المشيخة يمدون ايديهم للأجنبي"(1)، ثم بعد عودة العلامة أبي شعيب الدكالي من المشرق إلى المغرب أصبح هو حامل لوائها إذ "التف حوله جماعة من الشباب النابغ يوزعون الكتب التي يطبعها السلفيون بمصر ويطوفون معه لقطع الاشجار المتبرك بها والأحجار المعتقد فيها"(2). ثم تعزز ذلك بالجهود التي قام بها العلامة محمد بن العربي العلوي .

     فظهور هذه الحركة بالمغرب كان رد فعل ضد ما ساد المجتمع المغربي من الإنحرافات في العقيدة، وركون إلى الخرافة وما وقع فيه العقل الاسلامي من جمود وسقوط في دوامة الإجترار والتقليد "غالبا ما كانت تسلمه لأحضان ثقافة سكونية تقوم ركائزها بالأساس على فكر رجعي يعتمد الخرافة وهو يحسبها عقيدة ويصدر عن الأسطورة وهو يحسبها دينا في كتاباته وممارساته"(3).
     لذلك اجتذبت الكثير من الشباب الذي كان يتطلع إلى الخروج من وضعيته السيئة، وذلك بنشر الوعي الصحيح للدين والرجوع إلى مصدري الاسلام الاساسين الكتاب والسنة، لتنقيته مما علق به من أفكار شلت حركة المجتمع، وجعلت أبناءه يركنون إلى تلك الاوضاع الشاذة، وقد كان علال الفاسي واحدا من هؤلاء  الذين اجتذبتهم  مبادئ هذه الحركة ، والتفتوا حول مشاييخها ، فظهر نوع من العمل المنظم يقوده زمرة من الشباب المتشبع بهذه المبادئ وفي|هذا يقول :" وكانت تجتمع بفاس ثلة من الشباب حول ابن العربي ، وفي الرباط مثلها حول أبي شعيب، وتظهر آثار الثلثين في المحاضرات التي يلقونها ، والزيارات التي يتبادلونها ، والمقالات التي ينشرونها في صحف الجزائر وتونس "(4). وبذلك تدرج هذا المفهوم "من خطاب ثقافي بضرورة العودة إلى الكتاب والسنة ... إلى أسلوب فكري لحث الشعب على العلم والدعوة إلى إصلاح شامل ومقاومة الجمود في كل فروع الحياة" (5).
     وقد توسع عمل هذه الحركة حتى لفت أنظار الاستعمار ، وأحس أنها مقدمة لمقاومة قد تنشب ضده، وأنها قد أصبحت تضعف نفوذ زعماء الطرق الذين كانوا يدينون له بالولاء ، فتتبع أعضاءها بالاستنطاق وبالاعتقال .
ومع مرور الوقت واحتكاك هؤلاء الشباب بمجريات الأحداث ، ومعايشتهم للواقائع تبين لهم أن مفهوم السلفية الذي تشربوه من مشاييخهم ، والذي يختصر مبادئها في مجرد الرجوع إلى الكتاب والسنة، ومحاربة الخرافات والبدع، ومفهوم عام أكثر من اللازم، فوجب تدقيقه بعض الشيء، وتبيئته حتى يمكن أن يكون أساسا لمنهج فكري أكثر ملاءمة لأوضاع المغرب الذي يعيش آنذاك تحت وطأة الإستعمار الفرنسي، فوجب تطعيم هذه المبادئ بمبادئ جديدة قوامها الحرية في العقيدة والفكر، التي تعطي للأمم الحق في تقرير مصيرها واختيار النظم التي تريدها، وحرية العقيدة تستوجب حرية التألب من أجلها والتجمع للنضال عنها بالوسائل المشروعة السلمية، وتقرير المصير، واختيار النظم يستوجب حرية الجماعة في التعبير عن رأيها وإبداء ما نريده من أشكال الحياة، وكلا الامرين لا يتم إلا بطريق التنظيم الذي جاء به العصر في جمعيات وأحزاب ونقابات"(6).

     فإضافة إلى ضرورة تطعيم مفهوم السلفية بأفكار جديدة، لا بد من تطعيم عملها بوسائل جديدة تمكن من وضع تصوراتها موضع التنفيد والتطبيق وتضمن لها التأثير المنشود في تحقيق التغيير من أجل تحرير البلاد وتحقيق استقلالها، ومن هذه الوسائل : العمل التنظيمي بمختلف أشكاله، والذي يساعد على حشد الطاقات وتعبئة الجماهير نحو تحقيق الأهذاف المنشودة، سواء تعلق الأمر بالعمل الحزبي أو اللنقابي أو الجمعوي. ثم النضال من أجل إنشاء الدولة الإسلامية التي تستمد قوانينها.من الشريعة، وتتبع النظام الدستوري المبني على على حكم الشعب بواسطة  من يختارهم من نوابه الاكفاء. غير ان الوصول إلى هذه الغاية يستوجب بالضرورة التخلص من سيطرة الأجنبي "فالاستقلال شرط أساسي لنيل الحرية التي لا بد منها لتحمل المسؤولية"(7).
     كما أن ظروف العمل اقتضت في نظر الاستاذ علال الفاسي ضرورة الاقتناع بالقومية " المبنية لا على الروح العنصرية أو الدينية، ولكن على أساس الروابط الإقليمية ...لكن هذه القومية لا ينبغي أن تضيق إلى حد أن تحول دون التقارب المطلق بين سائر الشعوب المسلمة والعربية بصفة خاصة وإلا أصبحت عنصرية تتنافى مع الأصل الأصيل للدين الإسلامي "(8 ). وهذا باختصار هو مفهوم السلفية الجديدة كما نادى به الفاسي .

مفهوم الوطنية وعلاقته بالسلفية الجديدة.

     ثم يتحدث علال الفاسي عن الوطنية بما يوحي بأنه تطور جديد لمفهوم السلفية الجديدة فأفاض الكلام عن جملة من التحركات والنضالات التي خاضتها الحركة الوطنية وما رافق ذلك من توسيع العمل الوطني  خارج الوطن عن طريق تأسيس الجمعيات في كل من فرنسا والقاهرة .لكن مفهوم الوطنية هنا يبقى غامضا ، ذلك أنه لم يعرفه بما فيه الكفاية حتى يتسنى تمييزه عن السلفية لمعرفة ما إذا كان هذا المفهوم هو تطوير جديد لمفهوم السلفية أم أنه جزء منه خاصة وأنه قرر من قبل أن السلفية الجديدة لا تتنافى مع القومية المبنية على الروابط الأقليمية.
     وتجدر الإشارة إلى أن مفهوم السلفية هذا قد فصله علال الفاسي في كتابه الحركات الاستقلالية الذي ألفه إبان مقامه الأول في القاهرة بطلب من الإدارة الثقافية للجامعة العربية ، فهل بقي محافظا على هذه المفاهيم في المراحل الموالية من حياته ، أم أنها هي نفسها التي فصلها في كتابه النقذ الذاتي الذي  ألفه أثناء مقامه في طنجة؟
ففي تصديره لهذا الكتاب يؤكد علال الفاسي أن ما يطرحه مجرد أفكار خاصة يسعى إلى أن تكون نواة لانطلاق حوار شامل بين مختلف القوى بالبلاد في أفق صياغة نظرية عامة وبرنامج مفصل "يسهل ... تحقيق الأصلاحات العميقة"9.
     وقد ذكر أيضا أنه تكلف في سبيل وضعه عناء الرجوع إلى "عشرات المؤلفات العربية والمعربة والفرنسية والمنقولة إلى الفرنسية "10. والكتاب يقع في أربعة أبواب، والذي يهمنا منه هو الباب الثاني الذي عنوانه "التفكير بالمثال" ،تحدث فيه عن موقع الدين بصفة عامة ومكانته في بناء الحضارة الإنسانية ، وناقش فيه علاقته بالدولة مستندا إلى شواهد تاريخية خاصة التجربة الكنسية في أوربا.
     ثم تحدث عن الفكر الإسلامي خاصة ثم عن الفكر الوطني وعلاقته بالإسلام ، وهنا يحدد بدقة أكثر مفهوم الوطنية الذي سبق تناوله بشكل مبهم ـ فالإسلام بنظره يتميز بنوع من "المرونة ...جعلته يتمشى مع سير الآلة النفسية  للشعوب التي اعتنقته.وهكذا نجد في العالم الإسلامي تغايرا في طبائع الجماعات المسلمة وفقا لطبيعة الأرض التي تسكن بها"(11).
     فالوطنية في نظر علال الفاسي يلزم لتشكلها عنصرين أساسيين الأرض ووحدة الشعور النفسي بين سكان هذه الأرض وفي بيان هذا المعنى يقول:"فإن قوة الأرض أعظم القوات تأثيرا وأقدمها تاريخا كما أنها أقوى صمودا من قوة الدم ... والفكرة التي تتكون من التمسك بالأرض واعتبارها في مظاهر اتحادها مع النموذج النفسي هي التي نريد من الفكر الوطني" (12)، ويقول أيضا ": توحيد الأرض بالنموذج النفسي وتوحيدهما بروح العصر ، ذلك هو التفاعل الإنساني الذي تمتزج فيه مادية الأرض بروحانية الإنسان فيصبح الكل عبارة عن فكرة مجردة هي فكرة الوطنية الصحيحة التي لا تعتبر الناس بناء على ما بينهم من فوارق الجنس واللغة والدين ،إنما تعتبرهم بحسب ما يمكن من الاتحاد بين نموذجهم الشخصي والوطن الذي يعيشون فيه "(13).
     بعد هذا يتبين لنا أن مفهوم السلفية في صورتها الجديدة ما زال قائما في فكر علال الفاسي من خلال كتابه النقذ الذاتي ، فمعلوم أن السلفية فكرة مرتبطة أساسا بالدين ، وهو في كتابه هذا يجعل الدين في موقع مركزي يحيث يجب ان يتبوأ الصدارة في أي مشروع تهضوي تتم صياغته ، خاصة وأن الإسلام يتمتع بما يكفي من المرونة التي تجعله مصدر بعث ونهوض، وذلك  رغم نزوعه الوطني الواضح كما بينا.
خاتمة.

فالسلفية في فكر علال الفاسي تحولت إلى مشروع فكري نهضوي يسعى إلى بناء الدولة الوطنية القوية على أساس من الدين مع الانفتاح على ما توصلت إليه الحضارة الإنسانية من تقدم لاستثماره والاستفادة منه في تحقيق هذا المشروع .
فهو لم يأخذ بالسلفية كما ظهرت في المشرق بحذافيرها ، بل أخذ منها أشياء وترك أشياء خاصة ما يتعلق منها بالصراع مع باقي الأيديولوجيات وهذه قاعدة عامة تميز بها المغرب فيما يأخذه عن المشرق من أفكار " فالتيارات الفكرية النهضوية السلفية منها واللبيرالية والقومية التي تعرف المغاربة على آرائها  وأطروحاته عبر المجلات والصحف والاسفار والاتصالات المباشرة ، كانت تؤخذ دائما من وجهها الإيجابي الوطني النهضوي التحرري الذي يعكس الخصومات السياسية والأيديولوجية فلم يكن يعني المغاربة في شيء ،بل ربما لم يكونوا يدركون من أمره شيئا ذا بال"(14)، لذلك اكتسبت السلفية في فكر علال الفاسي طابعا خاصا جعلها تتكامل في عملها  وفي فكرها مع باقي القوى الوطنية في مواجهة المستعمر بدل الانخراط في التراشق الأيديولجي الذي كان سائدا في المشرق.
الهوامش.

1 الحركات الاستقلالية في المغرب العربي : علال الفاسي ص 133.
2 نفس المرجع.
3 المضمون الإسلامي في شعر علال الفاسي ص 23.
4 الحركات الاستقلالية ص 136.
5 المضمون الإسلامي في شعر علال الفاسي ص 25.
6 الحركات الاستقلالية ص 136.
7  نفس المرجع  ص 137.
8 نفس المرجع ص 137 .
9 نفس المرجع ص 136.
10 النقد الذاتي : علال الفاسي ص. ب.
11 نفسه ص .ب
12 النقد الذاتي ص 132.
13 انفسه ص 132.
14 محمد عابد الجابري موقع جريدة الاتحاد على الانترنت.

إرسال تعليق

0 تعليقات