قضية التأويل عند ابن رشد من خلال كتاب: " فصل المقال في تقرير ما بين الحكمة والشريعة من الإتصال"

يستهل ابن رشد كتابه  هذا بتأصيل "النظر الفلسفي" من الناحية الشرعية وذلك حتى يكسبه مشروعية كاملة ضمن دارئرة المعارف الإسلامية ، ويرفع عنه الاعتراض الذي وضعه بعض الفقهاء، " فإذا كان فعل الفلسفة ليس شيئا أكثر من النظر في الموجودات واعتبارها من جهة دلالتها على الصانع" (ص13) فهي واجبة شرعا ويشهد لذلك الآيات الكثيرة التي دعا فيها القرآن الكريم إلى " اعتبار الموجودات بالعقل … مثل قوله تعالى " فاعتبروا يا أولي الابصار" وهذا نص على وجوب استعمال القياس العقلي أو العقلي والشرعي معا " (ص14).
وإذا ثبت أن النظر العقلي في الموجودات مأمور به شرعا وكان هذا النظر لا يتم إلا بالبرهان " كان من الأفضل  أو الامر الضروري لمن اراد أن يعلم الله تبارك وتعالى وسائر الموجودات بالبرهان أن يتقدم اولا فيعلم أنواع البراهين وشروطها" (ص 14) حتى يتمكن من إعمالها على الوجه الاكمل


ولا ينقص من قيمة البرهان كونه نشأ في أمة " مخالفة لنا في الملة " فلا بأس من الاستفادة مما راكموه من معرفة به، خاصة وانه ليس أكثر من آلة ووسيلة إلى غاية مطلوبة شرعا " لتعذر تحقيق المعرفة التامة به  من جديد من قبل كل شخص او امة دون النظر فيما خلفه الاقدمون، ومع ذلك فلا ينبغي أن يجرنا النظر في كتب القدماء إلى التسليم بكل ما هو قالوا بل يجب " أن ننظر في الذي قالوه من ذلك وأثبتوه في كتبهم فما كان موافقا للحق قبلناه وسررنا به وشكرناهم عليه ، وما كان غير موافق للحق نبهنا عليه وحذرنا منه وعذرناهم" ص 17.
وليس كل الناس مؤهلون للنظر البرهاني في الموجودات بل لا بد لمن يتصدى لهذا الامر أن يكون ق " جمع امرين : ذكاء الفطرة ، والعدالة الشرعية والفضيلة الخلقية " (ص 17) ، وهذا يعني أنه إذا أساء بعض الناس استعمال البرهان سواء عن جهل بطرقه أو كانت الإساءة مقصودة لا ينبغي " أن نمنعه عن من هو أهل له " ﻷن هذه الاضرار إنما تلحق بالصناعة بالعرض لا بالذات " وليس يجب فيما كان نافعا بطباعه وذاته أن يترك لمكان مضرة موجودة فيه بالعرض" (ص 18). وهذا شيء عارض لسائر الصنائع " بما فيها الفقه وغيره من العلوم الشرعية.



أولا : رفع التعارض الذي قد يحصل بين البرهان والشريعة :

وإذا كانت الشريعة حقا، والبرهان أيضا يؤدي إلى الحق فإنه لا يتصور تعارض بين الحقيقة الشرعية والحقيقة البرهانية على وجه القطع ﻷن " الحق لا يعارض الحق، "فإن أدى النظر البرهاني إلى نحو من المعرفة بموجود ما فلا يخلو ذلك الموجود أن يكون قد سكت عنه الشرع أو عرف به، فإن كان مما سكت عنه فلا تعارض هنالك وهو بمنزلة ما سكت عنه من كثير من الأحكام فاستنبطها الفقيه بالقياس الشرعي، وإذا كانت الشريعة نطقت به فلا يخلو ظاهر النطق أن يكون موافقا لما أدى إليه البرهان فيه أو مخالفا ، فإن كان موافقا فلا قول هنالك ، وإن كان مخالفا طلب هنالك تأويله " (ص 19) ، ويظهر من قول ابن رشد أنه رغم التسليم بانتفاء التعارض قطعا بين الحقيقتين الشرعية والبرهانية فإنه قد يحصل أن تتعارض بعض الظواهر التي نطق بها الشرع مع بعض الحقائق البرهانية، والحل في هذه الحالة هو اللجوء إلى التأويل لرفع هذا التعارض الظاهري .
وإذا كان الفقيه يفعل هذا في كثير من الأحكام الشرعية فكم بالحري أن يفعل ذلك صاحب العلم بالبرهان فإن الفقيه إنما عنده قياس ظني والعارف عنده قياس يقيني" (ص20)، ذلك أنه ما من منطوق به في الشرع مخالف بظاهره لما أدى إليه البرهان إلا إذا تصفحت سائر أجزائه وجد في ألفاظ الشرع ما يشهد لذلك التأويل أو يقارب أن يشهد له" (ص 20) . ولهذا أجمع المسلمون على أنه ليس يجب أن أن تحمل ألفاظ الشرع كلها على ظاهرها ولا أن تخرج كلها من ظاهرها بالتأويل" (ص 20) . بل إن التاويل يبقى مقبولا في هذه المواضع حتى ولو عارض إجماعا ظنيا لتعذر الإجماع بطريق يقيني في النظريات . (ص 21).
ولا يعتد في هذا الباب بتكفير أبي حامد الغزالي للفلاسفة في المسائل الثلاث المشهورة  - القول بقدم العالم، وأن الله لا يعلم الجزئيات، وتأويل ما جاء في حشر الاجساد وأحوال المعاد -  بدعوى خرق الإجماع، ﻷن الغزالي نفسه يري في موضع آخر من كتبه – كتاب التفرقة- “ أن التكفير بخرق الإجماع فيه احتمال " فضلا عن ذلك فإن ابن رشد يرى "أن أباحامد غلط على الحكماء المشائين فيما نسب إليهم" في المسائل الثلاث . "وأحوال المختلفين في هذه المسائل العويصة اما مصيبون مأجورون، وإما مخطئون معذورون فإن التصديق بالشيء من قبل الدليل القائم في النفس هو شيء اضطراري لا اختياري" (ص 26).


ثانيا: أصناف الناس بالنسبة إلى انواع الاستدلال: 

فليس كل الناس إذن تنفع معهم نفس الأدلة بل إن لكل فئة طرق الاستدلال الخاصة بها بحسب استعدادها المعرفي بحيث تختلف طرق التعليم في حقهم، ذلك أن طرق التعليم صنفين : تصور وتصديق " … وطرق التصديق الموجودة للناس ثلاث : البرهانية والجدلية والخطابية، وطرق التصور اثنتان : إما الشيء نفسه وإما مثاله، ومن هذا الوجه فالناس  ثلاثة أصناف :

اولا :صنف ليس من اهل التأويل: وهم عامة الناس من الجمهور وهؤلاء  تنفع معهم الادلة الخطابية أو الجمهورية، لقصورهم عن إدراك  الأشياء التي يتوصل إليها بالبراهين لذا " فقد تلطف الله فيها لعباده الذين لا سبيل لهم إلى البرهان … بأن ضرب لهم امثالها واشباهها ودعاهم إلى التصديق بتلك الامثال " (ص 27) ﻷن هذه الامثال مما يقع به التصديق بالأدلة المشتركة بين جميع الناس.

ثانيا: صنف من اهل التاويل الجدلي : “ وهؤلاء هم الجدليون بالطبع او العادة" (ص 33) . ويندرج في هذا الصنف المتكلمون من المعتزلة والأشاعرة وغيرهم، ذلك أن الادلة التي يحجتون بها هي فوق الأدلة الخطابية، ودون الأدلة البرهانية ﻷنها لم تستوف شروط البرهان.

ثالثا : صنف من اهل التأويل اليقيني: “وهؤلا هم البرهانيون بالطبع والصناعة – أعني صناعة الحكمة- " (ص 33).
ويترتب على هذا التقسيم أن كل صنف من هذه الأصناف يختص بنوع من الأدلة التي يجب يصرح له بها، " وبالجملة فكل ما يتطرق إليه من هذه التآويل لا يدرك إلا بالبرهان ففرض الخواص فيه هو ذلك التاويل، وفرض الجمهور هو حملها على ظاهرها في الوجهين جميعا ...- أي – في التصور والتصديق إذ ليس في طباعهم أكثر من ذلك …" (ص 33). لذالك فلا يجب أن يصرح ﻷهل الجدل بهذا التأويل فضلا عن الجمهور " ومتى صرح بشيء من هذه التاويلات لمن هو من غير أهلها – وبخاصة التأويلات البرهانية - لبعدها عن المعارف المشتركة - أفضى ذلك بالمصرح والمصرح له إلى الكفر .

وقد حمل ابن رشد على المتكلمين من المعتزلة والاشاعرة لكونهم صرحوا لعامة الناس بتاويلاتهم "فاوقعوا الناس في شنآن وتباغض وحروب، ومزقوا الشرع وفرقوا الناس كل التفريق، وزائدا إلى هذا كله أن طرقهم التي اتبتوها في تأويلاتهم ليسوا فيها لا مع الجمهور ولا مع الخواص، أما مع الجمهور فلكونها أغمض من الطرق المشتركة للأكثر، أما مع الخواص لكونها – إذا تؤملت – وجدت ناقصة عن شرائط البرهان " ص 36. 
 ويخلص المؤلف إلى ان أفضل الطرق هي تلك التي " تثبت في الكتاب العزيز فقط، إذا تؤمل وجدت فيه الطرق الثلاث الموجودة لجميع الناس والطرق المشتركة لتعليم اكثر الناس والخاصة ...فمن حرفها بتأويل لا يكون ظاهرا بنفسه أو ظهر منها للجميع … فقد ابطل حكمتها وأبطل فعلها المقصود في إفادة السعادة الإنسانية " .

إرسال تعليق

0 تعليقات