حوار لي مع موقع إسلام اونلاين في نسخته الأولى سنه 2009 .

2009
عمر أوهمو
في هذا الحوار يستعرض "عمر أهمو" الباحث في القراءات المعاصرة مدارس تفسير النص القرآني المعاصرة؛ لافتا إلى المواقف المختلفة لهذه المدارس –على تنوعها– إزاء النص القرآني وطرائق التعامل مع لغته الخاصة حقيقة ومجازا.

كما يتحدث "أهمو" عن موقفه من التفسير العلمي للقرآن، ومن التوسل بالمناهج الغربية في فك شفرات النص القرآني، موضحا بالأمثلة بعض النتائج التي آلت إليها هذه القراءات وموقع هذه القراءات من الخبرة العلمية والمعرفية لتراث التفسير الإسلامي بأكمله.


ويلقى "أهمو" الضوء على الدراسات القرآنية وحالها في العالم عامة وفي العالم الإسلامي خاصة، وطبيعة المناهج السائدة في الجامعات المتخصصة، ومدى فاعليتها في إتاحة الفرصة للباحثين للفهم والاقتراب من جوهر المعمار البياني للقرآن الكريم.

وهذه تفاصيل الحوار:

* هل نحن بحاجة فعلية للتفسير والمفسرين في كل عصر؟


** يصرح القرآن الكريم بأنه واضح ميسر للذكر في قوله تعالى "ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مذكر"، وقد حث الله المؤمنين على تدبره والغوص في معانيه " كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الألْبَابِ " وفي قوله "أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا".

أي أن بإمكان كل مسلم أن يتدبر القرآن ويفهمه على قدر مبلغه من الفهم، ومع ذلك فالمستويات العليا من البيان والكشف عن مراد الله تبرر الحاجة إلى تفسير كتاب الله من قبل متخصصين استكملوا الأدوات العلمية المعينة على النظر في كتاب الله.

وكان أول مُبَين للقرآن وميسر له هو النبي صلى الله عليه وسلم حيث أمره الله تعالى بذلك في قوله جل وعلا: "بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ"، وقوله أيضا: "وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ".

فالحاجة إلى التفسير حاجة متجددة على مر الأزمان، لدواع كثيرة أسهب العلماء في تفصيلها منها: نزول القرآن باللغة العربية، ومعلوم أنه ليس كل الناس على درجة كافية من المعرفة بهذه اللغة تمكنهم من فهم وإدراك معاني الآيات على الوجه المطلوب.

وقد تنبه العلماء إلى هذه المسألة منذ القرون الأولى للإسلام حين بدأ "اللحن" يتفشى في أوساط المسلمين بسبب دخول أجناس أخرى غير العرب إلى الإسلام.

كما بدأت معاني كثير من الكلمات تتغير بحكم مبدأ التطور الدلالي للألفاظ، فنشأت حركة نشيطة تهدف إلى جمع اللغة وتوثيق معاني الألفاظ كما كانت زمن النزول، إلى جانب تقعيد اللغة، وظهرت مؤلفات كثيرة لهذه الغاية، بل إن الاهتمام بالشعر الجاهلي وجمعه وتوثيقه كان الغرض الأول منه الاستعانة به على فهم ألفاظ القرآن.

وهذا ما يفسر الجهود التي بذلها الأصمعي، وأبو عمرو بن العلاء، والجاحظ الذين تولوا إلى جانب غيرهم من العلماء مهمة جمع اللغة وتوثيقها سواء كانت شعرا أو نثرا.

ولولا أن الحاجة داعية إلى تفسير القرآن وبيانه لما نشأ هذا التراث الضخم من التفاسير التي تناولت النص القرآني من جميع الجوانب، فوجود هذا العلم وازدهاره دليل على الحاجة إليه.


* هل يحظى النص القرآني –برأيكم- بما يجعله قادرا في هذا العصر على شحن توقعاتنا وإثارة دهشتنا؟


** إن ختم النبوة والرسالات برسالة محمد صلى الله عليه وسلم، يحتم أن تكون الرسالة الخاتمة قادرة على البقاء وأن تتسم بصلاحية ممتدة في الزمان تستمر إلى أن يرث الله تعالى الأرض ومن عليها ومن هذه الخاصية يستمد القرآن قدرته على البقاء.

فرسالة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الناس كافة وهي أيضا رحمة للعالمين "وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ" (الإسراء 107)، "وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ" (سبأ 28)، وهذه الرحمة والبشارة والنذارة عامة لكل زمان ومكان وليست مخصوصة بزمن دون زمن، أو مكان دون مكان.

ورغم وضوح الآيات الدالة على هذا الأمر فإنه يوجد في عصرنا من يجادل فيه، فيفسر هذه الخاصية تفسيرا يكاد يلغي وجود النص لصالح تأويلات بشرية غير منضبطة بأي ضابط.

أي بالقول بظنية دلالية مطلقة لنصوص الوحي، كالقول بالطبيعة الرمزية للنص، وإنه يحتمل ما لا يتناهى من التأويلات، ومن ذلك ما يسميه شحرور ثبات النص وحركة المحتوى أو التشابه، ومنهم يثبتها لبعض القرآن دون بعض، كما فعل محمود طه الذي فرق بين رسالتين رسالة خالدة نزلت بمكة –الآيات المكية- وأخرى نزلت بالمدينة -الآيات المدنية- غايتها علاج المشاكل التي كانت سائدة وقت نزولها.


واقع الدراسات القرآنية



* كمتخصص في الدراسات القرآنية كيف ترى حال هذه الدراسات في العالم عامة وفي العالم العربي خاصة.. هل ترى أن المناهج السائدة في الجامعات المتخصصة تتيح فهما واقترابا لفهم المعمار البياني للقرآن؟


هناك ثلاثة تيارات تتجاذب الدراسات القرآنية في الجامعات حاليا:

الأول تيار محافظ: يبالغ في تمسكه بتراث التفسير دون قيد أو شرط، وإجلاله على نحو مبالغ فيه إلى درجة يمتنع معها الحديث عن أي إضافة أو تجديد في هذا العلم.

وهذا يظهر في طبيعة البحوث المنجزة في الجامعات إذ يغلب عليها جمع أقوال الأئمة في التفسير أو مناهج التفسير أو جهود المفسرين في هذا العلم.

وكان هذا النوع من الدراسة مطلوبا في فترة ما وقد أدى الإكثار منه إلى مراكمة كثير من البحوث المكررة في الموضوع الواحد، والجمود على هذه الطينة من البحوث حال دون الانتقال إلى مرحلة تالية تتقدم بالدراسات القرآنية إلى الأمام.

والثاني تيار تجديدي: يسعى إلى تجديد علم التفسير في ظل ضوابط التفسير المتعارف عليها بين أهل هذا العلم من منطلق الحاجة إلى التجديد، هذا التيار قدم دراسات قيمة تنحو منحى التجديد وقدم مساهمات علمية لا تخلو من جدة خاصة في مجال التفسير الموضوعي والدراسات المصطلحية والدراسات الإعجازية.

أما الثالث فهو تيار حداثي يسعى إلى تقديم قراءة جديدة مفارقة للقراءات الموروثة -أي القراءات التأسيسية- ومتجاوزا الضوابط المستقرة في علم التفسير، وما تراكم من تراث في هذا العلم، مضمونا ومنهجا.

فمن حيث المضمون: انتهى هذا التيار إلى نتائج لم يكن للمسلمين عهد بها في تعاملهم مع القرآن، وحاولوا إعادة النظر في كثير من القضايا القرآنية المجمع عليها بين المسلمين كقضية جمع القرآن وأسباب النزول وطبيعة النص القرآني.

ومن حيث المنهج: سعوا إلى تفكيك المناهج القائمة والتخلص منها باعتبارها قيودا رسخها المفسرون والفقهاء ليحدوا بها من حرية التعامل مع القرآن.

وهذه التيار في حقيقته إنما هو انعكاس للدراسات الاستشراقية المتعلقة بالقرآن الكريم في الجامعات الغربية.

ورغم القول بوجود هذه التيارات فإن ذلك لا يعني أنها تشكلت نتيجة عمل جماعي منظم؛ بل إن معظم الجهود المبذولة في الدراسات القرآنية هي جهود فردية لم ترق بعد إلى مستوى العمل الجماعي المنظم والاشتغال على مشاريع علمية واضحة تضمن الوصول إلى نتائج معتبرة لتُزيد هذه الدراسات خطوات إلى الأمام.


* توجد في ثقافتنا مناهج عدة لفهم وفك شفرات النص القرآني، منها التفسير الموضوعي والتفسير بالأثر فضلا عن التفسيرات العرفانية الباطنية، أيضا حركة علوم القرآن الخاصة "أسباب النزول" و"الناسخ والمنسوخ" و"المحكم والمتشابه" و"المكي والمدني" كيف يستفاد من تلك المدارس وهل خضعت لأدوات تفكيكية لفهمها؟؟ وفي هذا السياق كيف ترى التفسيرات المعاصرة كمحاولات سيد قطب ومالك بن نبي في كتابه الظاهرة القرآنية؟؟


** من المسلم به أن معظم العلوم الإسلامية نشأت حول النص القرآني لخدمته وتقديم الأدوات المساعدة على قراءته وفهم المراد منه، وعلى رأسها علم التفسير الذي قطع أشواطا وعرف تطورات على مستوى المضمون والمنهج.

وقد تعرض النص القرآني لمحاولات عديدة للقراءة كانت من ورائها دوافع كثيرة؛ ليست بالضرورة هي الكشف عن المعنى المراد من النص، بل كان من ورائها اعتبارات كثيرة على رأسها الاعتبارات المذهبية.

لذلك نشأت تفاسير تدافع عن الفرق الإسلامية المختلفة وتنتصر لمقولاتها بالتماس الشواهد والحجج المؤيدة لها من القرآن بتأويل النصوص القرآنية لحملها على ذلك بدرجات مختلفة.

فنشأت نزعة عقلية في التفسير مثلها المعتزلة، وأخرى إشارية مثلها الصوفية، ونزعة باطنية مثلها الغلاة، زيادة على ما عرف من تقسيم التفسير إلى تفسير بالمأثور وتفسير بالرأي وما رافق ذلك من جدل ونقاش حول أيهما الأقوم والأصوب في تفسير القرآن الكريم وبيان المراد منه.

وهكذا نلاحظ أنه لم تتوقف في عصر من العصور المحاولات المتكررة والمتعاقبة لتقديم قراءات معينة للقرآن الكريم كل حسب منطلقاته ومقاصده.

وفي عصرنا ظهر ما اصطلح على تسميته "القراءة الجديدة للقرآن" والتي يمكن تقسيمها حسب بعض الباحثين إلى قراءة تجديدية وأخرى حداثية.

فالقراءة "التجديدية" -كما يسميها د طه عبد الرحمن- كان الدافع إليها هو الحاجة إلى التجديد في علم التفسير، وهذه دعوة تنادى بها الكثيرون على مدار القرن العشرين ومن خصائصها: الارتباط والالتزام بما استقر عليه الأمر من ضوابط ومناهج في التفسير. وهي التي أنتجها ما أطلق عليه "عصر النهضة" منذ بداية القرن العشرين.

في هذا السياق تندرج محاولات محمد عبده ورشيد رضا، وفي فترة متأخرة سيد قطب الذي انفرد بتقديم قراءة متميزة للقرآن الكريم، ما زالت تحتل مكانة مرموقة بين التفاسير الحديثة.

وكذلك محاولة الأستاذ مالك بن نبي الذي حاول الاستدلال علميا على إمكانية حدوث ظاهرة الوحي على ضوء ما وصل إليه العلم.

وقد وصف الدكتور طه عبد الرحمن هذا النوع من القراءة بأنها ذات صبغة "اعتقادية" أي أنها تسعى إلى تحصيل اعتقاد من العملية التفسيرية.

والقراءة المعاصرة أو الحداثية: وهي تسعى إلى تقديم قراءة تختلف عن القراءة المتوارثة إلى حد إعلان القطيعة مع تفاسير المتقدمين، مما جعل أصحابها يستعملون في عملية القراءة مناهج منقولة عن الحضارة الغربية هي عين المناهج التي تستعمل في تحليل النصوص أيا كانت، وعلى رأسها النظريات الغربية في تحليل النصوص ونقدها ونظريات التأويل والقراءة دون اعتبار لخصوصية النص القرآني باعتباره وحيا.

وهذا النوع من القراءة وصفه الدكتور طه عبد الرحمن بأنه ذو صبغة انتقادية وصاغ عبارته كما يلي: "فالقراءات الحداثية لا تريد أن تحصل اعتقادا من الآيات القرآنية، وإنما تريد أن تمارس نقدها على هذه الآيات".

بالنسبة لمباحث علوم القرآن فإن حضورها في القراءات الحداثية للقرآن الكريم إنما هو بغرض توظيفها للاستدلال على تفسيراتهم وتأويلاتهم وأشهر مثال على ذلك في مبحث أسباب النزول خاصة قاعدة: "العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب".. حيث جعلوا العبرة بخصوص السبب لا بعموم اللفظ ليوجدوا سندا للقول بمبدأ التاريخية.

أي أن آيات القران محكومة بمكان وزمان نزولها وكذا إعادة تعريف عدد من المفاهيم بما ينسجم مع النتائج التي يريدون تكريسها كمفهوم الوحي، والمحكم والمتشابه، وإعادة النظر في طبيعة النص القرآني، وإنكار الناسخ والمنسوخ... وكذا إنكار أي دور للسنة في فهم القرآن الكريم.


القرآن والمناهج الغربية



* كيف ترى التوسل بالمناهج المقررة في علوم الإنسان والمجتمع لفهم الدراسات القرآنية مثل "اللسانيات" و"السيميائيات"، "وعلم التاريخ" بل والتحليل النفسي، بل والمسارعة في الاستعانة بالنظريات الأدبية النقدية مثل "اتجاهات تحليل الخطاب" و"البنيويات" و"التأويليات" و"الحفريات" دون النظر في صلاحياتها أو مآلات نتائجها؟.


** إن الحاجة إلى قراءة القرآن الكريم على نحو متجدد، وكذا الاستفادة مما وصلت إليه المعارف الإنسانية أمر لا غبار عليه من حيث المبدأ، لكن دون تجاهل لطبيعة النص القرآني باعتباره نصا مقدسا موحى من الله إلى رسوله محمد صلى الله عليه وسلم حقيقة.

أي أنه كلام الله عز وجل على الحقيقة، وليس كما يحاول بعض الباحثين إثارة اللبس حول هذه المسألة والجدال في شأنها. وأن القصد الأصلي منه هو هداية الخلق وإرشادهم إلى توحيد الخالق وعبادته.

إن التعسف في استعمال هذه المناهج المنقولة يؤدي إلى نتائج لم يكن للمسلمين عهد بمثلها، ويوقع أصحابها في دوامة التقليد من حيث يريدون الإبداع.

ولما كان مفهوم القراءة واسعا يشمل كل محاولة للتعامل مع القرآن الكريم، والمناهج المستعملة فيها متعددة، جاز لنا أن نقول بتعدد القراءات بتعدد المناهج والخلفيات الفلسفية والنظرية فأمكن الحديث عن قراءة بنيوية وقراءة تفكيكية وأخرى هيرمينوطيقية وأخرى سيميائية إلى آخره.

وقبل استعمال أي منهج من هذه المناهج فإن أصحاب القراءات المعاصرة يمهدون لذلك بإعادة النظر في بعض المفاهيم والمصطلحات ووضع تعريفات جديدة لها بدعوى أن المفاهيم الموروثة لم يضعها الرسول صلى الله عليه وسلم، بل هي من وضع الفقهاء والمفسرين تقييدا لحرية القراءة، ومن هذه المفاهيم مفهوم الوحي وكذا طبيعة النص الموحى لإهدار الجانب الغيبي في المسألة.

وعليه فتحقيق نظرة أصحاب القراءات المعاصرة لمفهوم الوحي وطبيعته من شأنها أن تفسر لنا الكثير من النتائج التي توصلوا إليها، فلئن قرروا من حيث المبدأ أن القرآن الكريم نص موحى به، فإنه من حيث التفصيل تظهر الكثير من الجزئيات التي يؤول معها النص القرآني إلى نص أو منتج ثقافي محكوم بعنصري الزمان والمكان.

وعليه فينبغي الوقوف عند مسألة طبيعة النص القرآني في القراءة الحداثية لاستجلاء حقيقة موقف كل قارئ من النص القرآني، كذا يجب التدقيق في جملة من المصطلحات المتداولة في هذا الباب والتي يغلب أن تحمل شحنات مفهومية من شأنها أن تفسر النتائج المختلفة التي توصلت إليها.

على العموم فإن بعض أصحاب القراءات المعاصرة للقرآن الكريم على اختلاف بين أعلامها قد انتهت إلى أقوال مبتدعة من ذلك القول بتاريخية القرآن، أي أنه محكوم بالزمان والمكان اللذين نزل فيهما، أو أنه ذو بنية أسطورية، وبعضهم سماه نصا مؤسسا لكنه ذو طبيعة رمزية يحتمل ما لا يتناهى من التأويلات.

وكل هذه الأقوال إنما هي نتيجة لاستعمال مناهج معينة في التحليل، وهم بذلك يعيدون النظر في "طبيعة النص القرآني" لمحاولة وضع تعريف جديد له يسمح بتوسيع أفق القراءة، وخير معبر عن هذا ما صرح به د محمد أركون في كتابه "الفكر الأصولي واستحالة التأصيل" بأنه يحلم بقراءة حرة إلى درجة التشرد والتسكع في كل الاتجاهات لأنها قراءة تجد فيها كل ذات بشرية نفسها.

وقد حكم الدكتور طه عبد الرحمن على هذه القراءات بأنها قراءات مقلدة رغم ادعاء أصحابها الإبداع والتجديد لأنها تستعمل مناهج منقولة وليست أصيلة.


وفي جميع الأحوال فإن الاستفادة مما وصلت إليه المعرفة الإنسانية واستثماره في قراءة القرآن يستوجب الجواب أولا على جملة من الأسئلة تدور في مجملها حول حدود القراءة، والمناهج الصالحة لإنجاز هذه القراءة، وهل النص القرآني مفتوح على عدد غير محدود من القراءات والتفسيرات؟ وهل كل قراءة مشروعة أيا كانت المناهج المستعملة فيها؟ أم أن الأمر يتعلق بنص خاص من طبيعة خاصة يستدعي بالضرورة قراءة خاصة؟


وفي الوقت نفسه نطرح على أنفسنا سؤالا جوهريا وهو: هل الرفض المطلق لكل قراءة جديدة والتبرم منها ومن أصحابها يجب أن يقابله جمود على ما استقر من مناهج موروثة في التفسير؟ وما يزيد هذا السؤال إلحاحا هو خلو الساحة العلمية من مشروع تجديدي حقيقي.

والدليل على ذلك النقاش المحموم حول ضرورة صياغة علم أصول التفسير وعلم قواعد التفسير لكن دون نتائج ملموسة تذكر على المستوى العملي.

موقف من الإعجاز العلمي


* في النصف الثاني من القرن العشرين سطع نجم (التأويل العلمي للقرآن الكريم)، وأخذ مشايخنا وعلماؤنا، بتأويل الآيات القرآنية لتتناسب مع اكتشاف علمي ما أو ظاهرة علمية كيف تقيم مدرسة التأويلات العلمية للقرآن الكريم؟


** مسألة الإعجاز في القرآن الكريم مسالة مسلم بها بنص القران الكريم، وقد تناول العلماء بالدرس مختلف وجوه إعجاز القران الكريم منذ القديم، وفي العصر الحديث ظهرت حركة الإعجاز العلمي في القرآن وأشهر تفسير في هذا القرن هو تفسير طنطاوي جوهري "جواهر القرآن".

غير أنه يجب أخذ الأمور بنوع من الحذر في هذا الباب لأن الكثير من المنجزات العلمية التي تفسر بها كثير من الآيات يتم تجاوزها علميا، أو يتم الاعتماد منذ البداية على فرضيات علمية إلى جانبها فرضيات أخرى يصعب الجزم بأيها الأصح.

وهذا يطرح سؤال القيمة العلمية لهذه التفسيرات، وخاصة أن كثيرا من المتكلمين في الإعجاز العلمي يتحدثون على وجه القطع وبحماس شديد الغرض منه إقناع الجمهور بثبوت خاصية الإعجاز للقرآن وليس البحث من أجل وضع تفسيرات علمية منضبطة بقواعد البحث العلمي.

دون أن ننسى أن القرآن الكريم ليس كتابا لتقرير الحقائق العلمية، وإن احتوى على عدد منها، بل هو وحي أنزله الله لهداية البشر وإرشادهم إلى الإيمان به وعبادته.


* إذا كان الأصوليون لهم تعريف محدد للقرآن بحسبانه المتعبد بتلاوته المتحدى بآياته.. ثم الآن يتسارع مفهوم عقلنة النص وجعل النص كأي نص ديني توحيدي أو وثني ويترتب على هذه المماثلة جعله متاحا للتناول الإنساني كأي نص أدبي أو فكري عادي بعيدا عن مفاهيم الإطلاق والتعالي والانفصال والقدسية أيضا تبدلا في الوظيفة القرآنية في رسم العقائد وضبط الشعائر، بل وتغيرا في مفهوم الوحي ودراسته في إطار معاني الموهبة والكاريزما؟؟


** وضع العلماء تعريفا جامعا لخصائص القرآن ومبينا لطبيعته فقالوا بأنه "كلام الله المعجز المنزل على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم المتعبد بتلاوته المجموع بين دفتي المصحف المبدوء بسورة الفاتحة والمنتهي بسورة الناس".

فمن خلال هذا التعريف تظهر الصبغة الدينية للقرآن الكريم، وأي تعامل معه يحب أن يكون على هذا الأساس أي أنه وحي من الله عز وجل وأن الغاية من تفسيره وفهمه هي تحصيل الاعتقاد، أي فهم مراد الله تعالى من كلامه بغرض العمل به والامتثال له.

وهذا إنما يحصل بمناهج محددة معروفة الغاية منها بالأساس هي استكشاف ما تدل عليه النصوص القرآنية من معان واستنباط الأحكام، وتبين حقيقة التعاليم الدينية التي جاء القرآن الكريم مبشرا بها وداعيا إليها، وفق ما تقتضيه قواعد اللغة العربية التي نزل بها القرآن.

وهذا هو الذي ينسجم مع طبيعة هذا النص، ويرسم الطريق الأسلم لأي قراءة للقرآن الكريم، فلا يتعلق الأمر –كما قال الدكتور عبد المجيد النجار- بقراءة ذوقية الغاية منها تحصيل متعة فنية، أو ترويض الفكر، أو ثقافية ترمي إلى دراسة الوضع الثقافي والسياسي لمنشئها وللعصر الذي أنشئت فيه.

لكن الذي يحصل أن أصحاب القراءات الحداثية يعاملون القرآن كأي نص آخر الغاية من دراسته هي تفكيكه وتحليله وتشريحه بأي منهج كان، وبذلك يجردونه من خصائصه التي تميزه عن غيره من النصوص، فهو -بنظرهم- وإن كان نصا مقدسا في أصله فبمجرد نطقه بلغة بشرية صار نصا بشريا، ومن هذه الناحية لا مناص من قراءته كما تقرأ غيره من النصوص.

فهم يتعاملون معه على أنه منتج ثقافي محكوم بظروف الزمان والمكان. وقد يرون من جهة أخرى أن فهمه وتأويله يجب أن يكون محكوما بطبيعة الإطار المرجعي والمعرفي للمفسر، وبالسياق التاريخي للعصر الذي تتم فيه عملية القراءة والتأويل.

وفي هذا تغليب لجانب القارئ على حساب النص المقروء دون مراعاة لطبيعة هذا النص باعتباره وحيا وباعتباره نزل بلسان عربي، وثمار هذا المنهج هو الوقوع في آفة الإسقاط، أي إسقاط مناهج وآليات غربية على الآيات القرآنية.

ويقرر د.طه عبد الرحمن أن هذا النهج يؤدي إلى تكرير نفس النتائج التي توصل إليها الغربيون بصدد التوراة والأناجيل، ومما يشهد لحصول هذا الإسقاط ما صرح به د هاشم صالح -مترجم كتب د.أركون- في مقدمة ترجمته لكتاب "قضايا في نقد العقل الديني" لأركون من أن ما يقوم به هذا الأخير بالنسبة للتراث الإسلامي يشبه إلى حد بعيد ما فعله علماء أوروبا مع المسيحية، ويبرر هذا الأمر بكون أزمة الوعي التي يعيشها المسلمون الآن تشبه في معظم جوانبها أزمة الوعي الأوروبي مع الحداثة.

ولا يخفى ما في هذا الموقف من الإسقاط الواضح سواء في الناحية المنهجية أو من الناحية الواقعية أي تشبيه الواقع الإسلامي حاليا بالواقع الغربي في فترة تاريخية معينة.


دعوى "تاريخية النص"!!



* تقف الدراسات القرآنية حائرة بين علوم القرآن الخاصة بدراسة أسباب النزول والناسخ والمنسوخ.. إلخ وعلوم السياق والوصل بالظروف بين الحوادث وخيارات التحقق الأول للمقاصد القرآنية.. فكيف نطبق أفكار السياق التاريخي ونتفادى التاريخية النصية الأركونية والنصرية تلك التي تتوسع في تعميم التاريخية لتنسحب حتى على العقيدة والأحكام؟؟ كيف ترى الفرق بين النص القرآني والواقعة التاريخية؟؟


** صحيح أن القرآن الكريم نزل في فترة تاريخية معروفة لدينا بكثير من التفصيل، وأنه عالج كثيرا من الآفات التي كانت سائدة في تلك الفترة على جميع المستويات الدينية والاجتماعية والثقافية، لكن هل انتهى دوره بزوال تلك الفترة التاريخية واستنفد أغراضه؟

هذا ما تسعى القراءات الحداثية إلى إثباته والدفاع عنه بدعوى تاريخية النص، ولا يشوش على هذا الأمر تأكيدهم أن التاريخية تنصرف إلى تفاسير المتقدمين كما يقول بعض أعلام هذه القراءات، لأنه بعد توجيههم النقد إلى هذه التفاسير ووصفها بالقصور وتجريدها من أي صلاحية لزماننا باعتبار أن أصحابها قد اجتهدوا لزمانهم فلا بد نحن كذلك أن نجتهد في قراءة النص القرآني قراءة تلائم زماننا، يرون أن استمرار بقاء النص يقتضي إخضاعه لعملية التأويل.

ومن أجل هذا يقترحون مناهج في القراءة تصل إلى حد إلغاء النص بالإغراق في التأويل بدعوى أنه نص يحتمل ما لا يتناهى من التأويلات وأن هذا بزعمهم هو سر تعاليه عن الزمان والمكان، أما ما استقر في علم التفسير من ضوابط وقواعد إنما هي من وضع الفقهاء والمفسرين لبسط سلطتهم على النص واحتكار تأويله، لذلك فهي غير ملزمة لأنها تحد من قدرتهم على التأويل وتضيق أفق القراءة.

فبالنسبة لمحمد شحرور يصرح بأنه لا يمكن حسب قوله لإنسان أن يحقق قفزة نوعية في المعرفة إلا إذا خرج عن المدارس الموروثة وحرر نفسه من إطاراتها؛ لأنها بحسب قوله كرست مجموعة من المسلمات المعكوسة التي تحتاج إلى إعادة نظر. فكان لا بد من التخلص من هذه المسلمات الموروثة ومن هذه الزاوية تستوي قراءة محمد شحرور العصرية بالقراءة الحداثية عموما.

وحتى أسباب النزول التي يتذرعون بها للقول بتاريخية النص لا تسعف في هذا الأمر، لأن أغلب الآيات ليس لها سبب نزول، كما أن الكثير من الروايات في هذا الباب محل نظر من جهة الصناعة الحديثية، وحتى في حال ثبوت سبب النزول لآية ما فإن القاعدة تقول إن "العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب"؛ أي أن الآية وإن نزلت لسبب ما فإنها بعد ذلك تصير عامة في الحالات المشابهة.


* ما الفرق ما بين القراءة الحداثية والقراءة المعاصرة؟


** تصنف هذه القراءات حسب الدكتور طه عبد الرحمن إلى نوعين: الأول: القراءة التراثية: وهي بدورها على نوعين:

أحدهما: القراءات التأسيسية: وهي التي قام بها المتقدمون من فقهاء أو متكلمين أو صوفية، والثاني: قراءات تجديدية وهي التي قام بها المتأخرون من سلفيين إصلاحيين كانوا أو سلفيين أصوليين أو إسلاميين علميين. وهذه القراءات تختص بكونها ذات صبغة اعتقادية أي أنها تسعى إلى تحصيل اعتقاد من الآيات القرآنية. وتختص بكونها "تفسيرات للقرآن تضع للإيمان أسسه النظرية أو تقوي أسبابه العملية".

والثاني: القراءات الحداثية: وهي تفسيرات لآيات القرآن تخرج عن الصفة الاعتقادية وتتصف بضدها وهو الانتقاد أي أنها لا تريد أن تحصل اعتقادا من الآيات القرآنية وإنما تريد أن تمارس نقدها على هذه الآيات، وتتوسل بمناهج منقولة من أجل تحقيق هذا الغرض، هي نفس المناهج التي توسل بها الغربيون لنقد الكتاب المقدس، وكذا نظريات تأويل وقراءة النصوص الغربية دون مراعاة لخصوصية النص القرآني حيت سووا بينه وبين غيره من النصوص أيا كانت.

ولتجاوز إشكال تصنيف بعض القراءات الموسومة بالمعاصرة، والتي يصرح أصحابها بأنها ذات صيغة اعتقادية؛ خاصة تلك التي أنجزها الباحث السوداني أبو القاسم حاج حمد، والسوري محمد شحرور، ينبه الدكتور طه عبد الرحمن إلى أهمية التفريق بين "القراءة الحداثية" و"القراءة العصرية"؛ لأن الحداثة في نظره غير المعاصرة ويضرب مثلا بمحمد شحرور باعتبار قراءته قراءة عصرية وليست حداثية، ويستدل على ذلك بأمرين:

أحدهما: أنه وصف قراءته بأنها معاصرة، والثاني أن الحداثيين أنكروا على قراءته صفة الحداثة ونضرب مثلا على ذلك بمحمد أركون في كتابه "القرآن من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني"؛ حيث وصف قراءة د.شحرور بأنها لم تجعل الوحي محلا للمساءلة وإنما قامت "بتثبيته مرة أخرى للمسلمين الذين قد يتعرض إيمانهم للاهتزاز تحت تأثير الفكر العلمي الحديث". ووصف أيضا قراءته بأنها محاولة تهدف إلى "إعادة تقييم الصحة الإلهية والصلاحية الكونية للقرآن"، ومع ذلك توجد قواسم مشتركة بين القراءتين تجعلهما تقريبا في صف واحد.


القراءة الحداثية في ميزان اللغة


* لماذا نرفض القراءة الحداثية للقرآن؟... هل لأنها قراءة تأخذ بالمناهج الغربية -وبخاصة اللسانية منها- وتنهج نهج المستشرقين؟؟

** من حيث المبدأ لا ينبغي أن نرفض مطلقا كل قراءة تسعى إلى تجديد فهم كتاب الله –وتحقق إبداعا موصولا– أي أنها لا تقطع صلتها بالماضي بل تستوعبه وتحفظ ما صلح منه وتضيف إليه، أما إذا كانت القراءة مفصولة لا تصلها صلة بما تركه المتقدمون سواء من حيث المضمون أو من حيث المنهج فإن هذا النوع من القراءة مرفوض من ثلاث نواح:

من حيث منطلقاتها إذ أنها تعامل النص القرآني كأي نص آخر لا ميزة له على باقي النصوص البشرية، وفي هذا إهدار لأهم خصائصه هو كونه وحيا من الله، ومن حيث مناهج القراءة وهذا الجانب هو نتيجة لسابقه إذ موقف أصحاب القراءات الحداثية من النص هو الذي يحملهم على جعله مستباحا وقابلا لقراءته بمناهج مستوردة منقولة من بيئة أخرى مخالفة تماما لبيئة النص القرآني، وتطبيقها على النص القرآني دون قيد أو شرط.

أما من حيث النتائج فقد توصلوا باستعمال هذه المناهج إلى أقوال لا تسعف قواعد اللغة في القول بها، وقد تجاوزوا البحث في الآيات ظنية الدلالة إلى البحث في النصوص قطعية الدلالة لإعادة النظر فيها وتأويلها بشكل يخرج عما يقتضيه اللسان العربي.

وليس في هذا أي إبداع أو تجديد لأن عملهم لم يخرج عن كونه تقليدًا لمناهج واجترارًا لأقوال مسبوقين إليها حتى إن جهدهم لم يتجاوز الترجمة فقط.


* ما الفرق بين طبيعة النص القرآني في القراءة المعاصرة والخطاب القرآني؟


** من خلال التعريف السابق للقرآن الكريم تظهر لنا طبيعة النص القرآني كما يحددها القرآن نفسه وكما حددها العلماء خاصة والمسلمون عامة على مر القرون.

فالقرآن كتاب يحمل رسالة دينية لذا يجب أن تكون الغاية من كل قراءة له هي محاولة الكشف عن معاني هذه الرسالة وتبليغها للناس حتى يفهموها ويعملوا بها.

أما القراءة الحداثية فتهدف أساسا إلى نزع القداسة عن القرآن الكريم حتى تتحرر من أي ضوابط أو قيود في عملية القراءة، وقد سلكوا في ذلك حسب الدكتور طه عبد الرحمن ثلاث خطط:

الأولى: "خطة الأنسنة" والغاية منها رفع عائق القداسة عن القرآن الكريم بالتسوية بينه وبين الكلام الإنساني.

والثانية "خطة التعقيل" أو "العقلنة" والغاية منها رفع عائق الغيبية، وبالتالي تجاهل الجانب الغيبي في أي قراءة، واستعمال المناهج الحديثة في القراءة، وما يرافق ذلك من إطلاق سلطة العقل في التأويل والقراءة.

والخطة الثالثة والأخيرة وهي "الأرخنة" والغاية منها ربط النص القرآني بالمكان والزمان اللذين نزل فيهما ورفض القول بأن في القرآن أحكاما ثابتة وأزلية أي لا ترتبط صلاحيتها بزمان أو مكان.

وهكذا ينتهون إلى نفي أي مزية ينفرد بها القرآن الكريم عن سائر أنواع الخطاب، وهذا يعني مشروعية القراءة بأي منهج كان.
اجرى الحوار : محمد السرتي
صحفي مغربي

إرسال تعليق

0 تعليقات